فصل: قال ابن عطية في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{إِنّ هذِهِ تذْكِرةٌ فمنْ شاء اتّخذ إِلى ربِّهِ سبِيلا (19)}
الإشارة ب {هذه} يحتمل أن تكون إلى ما ذكر من الأنكال والجحيم والأخذ الوبيل ونحوه. ويحتمل أن تكون إلى السورة بأجمعها ويحتمل أن تكون إلى القرآن، أي أن هذه الأقوال المنصوصة، فيه، {تذكرة}، والتذكرة مصدر كالذكر. وقوله تعالى: {فمن شاء} الآية، ليس معناه إباحة الأمر وضده، بل يتضمن معنى الوعد والوعيد. والسبيل هنا: سبيل الخير والطاعة. وقوله تعالى: {إن ربك يعلم} الآية نزلت تخفيفا لما كان استمر استعماله من قيام الليل إما على الوجوب أو على الندب حسب الخلاف الذي ذكرناه، ومعنى الآية: أن الله تعالى يعلم أنك تقوم أنت وغيرك من أمتك قياما مختلفا فيه، مرة يكثر ومرة يقل، ومرة أدنى من الثلثين، ومرة أدنى من الثلث، وذلك لعدم تحصيل البشر لمقادير الزمن مع عدم النوم، وتقدير الزمان حقيقة إنما هو لله تعالى، وأما البشر فلا يحصي ذلك فتاب الله عليهم، أي رجع بهم من الثقل إلى الجنة وأمرهم بقراءة {ما تيسر}، ونحو هذا يعطي عبارة الفراء ومنذر فإنهما قالا {تحصوه} تحفظوه، وهذا التأويل هو على قراءة من قرأ {ونصفِه وثلثِ} بالخفض عطفا على الثلثين، وهي قراءة أبي عمرو ونافع وابن عامر. وأما من قرأ {ونصفه وثلثه} بالنصب عطفا على {أدنى} وهي قراءة باقي السبعة، فالمعنى عنده آخر، وذلك أن الله تعالى قرر أنهم يقدرون الزمان على نحو ما أمر به في قوله: {نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه} [المزمل: 3-4]، فلم يبق إلا أن يكون قوله: {لن تحصوه} لن تستطيعوا قيامه لكثرته وشدته فخفف الله عنكم فضلا منه لا لقلة جهلهم بالتقدير وإحصاء الوقت، ونحو هذا تعطي عبارة الحسن وابن جبير {تحصوه} تطيعوه، وقرأ جمهور القراء والناس {وثلُثه} بضم اللام، وقرأ ابن كثير في رواية شبل عنه: {وثلْثه} بسكون اللام. وقوله تعالى: {فاقرأوا ما تيسر من القرآن} إباحة، هذا قول الجمهور، وقال ابن جبير وجماعة هو فرض لابد منه ولو خمسين آية، وقال الحسن وابن سيرين قيام الليل فرض، ولو قدر حلب شاة، إلا أن الحسن قال: من قرأ مائة آية لم يحاجه القرآن، واستحسن هذا جماعة من العلماء، قال بعضهم: والركعتان بعد العتمة مع الوتر مدخلتان في حكم امتثال هذا الأمر، ومن زاد زاده الله ثوابا. و{أن} في قوله تعالى: {علم أن} مخففة من الثقيلة. والتقدير أنه يكون، فجاءت السين عوضا من المحذوف، وكذلك جاءت لا في قول أبي محجن: الطويل:
ولا تدفنني بالفلاة فإنني ** أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها

والضرب في الأرض: هو السفر للتجارة، وضرب الأرض هو المشي للتبرز والغائط.
فذكر الله تعالى أعذار بني آدم التي هي حائلة بينهم وبين قيام الليل وهي المرض والسفر في تجارة أو غزو، فخفف عنه القيام لها. وفي هذه الآية فضيلة الضرب في الأرض بل تجارة وسوق لها مع سفر الجهاد، وقال عبد الله بن عمر: أحب الموت إليّ بعد القتل في سبيل الله أن أموت بين شعبتي رحلي أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله، ثم كرر الأمر. بقراءة ما تيسر منه تأكيدا و{الصلاة} و{الزكاة} هما المفروضتان، ومن قال إن القيام بالليل غير واجب قال معنى الآية خذوا من هذا الثقل بما تيسر وحافظوا على فرائضكم، ومن قال إن شيئا من القيام واجب قال: قرنه الله بالفرائض لأنه فرض. وإقراض الله تعالى: هو إسلاف العمل الصالح عنده. وقرأ جمهور الناس {هو خيرا} على أن يكون هو فصلا، وقرأ محمد بن السميفع وأبو السمال {هو خيرُ} بالرفع على أن يكون {هو} ابتداء، و{خير} خبره والجملة تسد مسد المفعول الثاني ل {تجدوه}. ثم أمر تعالى بالاستغفار وأوجب لنفسه صفة الغفران لا إله غيره، قال بعض العلماء فالاستغفار بعد الصلاة مستنبط من هذه الآية ومن قوله تعالى: {كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون} [الذاريات: 17].
قال القاضي أبو محمد: وعهدت أبي رحمه الله يستغفر إثر كل مكتوبة ثلاثا بعقب السلام ويأثر في ذلك حديثا، فكأن هذا الاستغفار من التقصير وتفلت الفكر أثناء الصلاة، وكان السلف الصالح يصلون إلى طلوع الفجر ثم يجلسون للاستغفار إلى صلاة الصبح.
نجز تفسير سورة (المزمل) بحمد الله وعونه وصلى الله على محمد وآله. اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{إِنّا أرْسلْنا إِليْكُمْ}
يا أهل مكة {رسُولا شاهدا عليْكُمْ} يشهدُ يوم القيامةِ بما صدر عنكُم من الكفرِ والعصيانِ {كما أرْسلْنا إلى فِرْعوْن رسُولا} هو مُوسى عليه السلام وعدمُ تعيينهِ لعدمِ دخلِه في التشبيهِ {فعصى فِرْعوْنُ الرسول} الذي أرسلناهُ إليهِ ومحلُّ الكافِ النصبُ على أنّها صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي إنّا أرسلنا إليكم رسولا فعصيتموه كما يعربُ عنه قوله تعالى: {شاهدا عليْكُمْ} إرسالا كائنا كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصاه وقوله تعالى: {فأخذناه أخْذا وبِيلا} خارجٌ من التشبيه جيء به للتنبيه على أنّه سيحيقُ بهؤلاءِ ما حاق بأولئك لا محالة والوبيلُ الثقيلُ الغليظُ من قولهم كلأٌ وبيلٌ أي وخيمٌ لا يستمرأُ لثقلهِ، والوبيلُ العصا الضخمةُ. {فكيْف تتّقُون} أي كيف تقون أنفسكمُ {إِن كفرْتُمْ} أي بِقيتُم على الكفرِ {يوْما} أي عذاب يومٍ {يجْعلُ الولدان} من شدةِ هولِه وفظاعةِ ما فيهِ من الدّواهي {شِيبا} شيوخا جمعُ أشيب إما حقيقة أو تمثيلا وأصلهُ أنّ الهموم والأحزان إذا تفاقمتْ على المرء ضعفتْ قُواه وأسرع فيه الشيبُ وقد جُوِّز أنْ يكون ذلك وصفا لليومِ بالطولِ وليس بذاك. {السّماء مُنفطِرٌ} أي منشقٌّ، وقرئ {مُتفطِّر} أي متشققٌ والتذكيرُ لإجرائه على موصوفٍ مذكرٍ أي شيءٌ منفطرٌ عبّر عنها بذلك للتنبه على أنّه تبدلتْ حقيقتُها وزال عنها اسمها ورسمها ولم يبق منها إلا ما يُعبرُ عنه بالشيءِ، وقيل: لتأويلِ السماءِ بالسقفِ وقيل: هو من باب النسبِ أي ذاتُ انفطارٍ. والباءُ في قوله تعالى: {بِهِ} مثلُها في فطرتُ العود بالقدُومِ {كان وعْدُهُ مفْعُولا} الضميرُ لله عز وجل، والمصدرُ مضافٌ إلى فاعله، أو لليوم وهو مضافٌ إلى مفعولهِ. {إِنّ هذه} إشارةٌ إلى الآيات المنطويةِ على القوارع المذكورةِ {تذْكِرةٌ} موعظةٌ {فمن شاء اتخذ إلى ربّهِ سبِيلا} بالتقرب إليه بالإيمان والطاعةِ فإنّه المنهاجُ الموصلُ إلى مرضاتِه.
{إِنّ ربّك يعْلمُ أنّك تقُومُ أدنى مِن ثُلُثىِ الليل} أي أقلّ منهما استعير له الأدنى لما أنّ المسافة بين الشيئينِ إذا دنتْ قلّ ما بينهُمامن الأحيازِ {ونِصْفهُ وثُلُثهُ} بالنصب عطفا على {أدْنى}. وقرئا بالجرِّ عطفا على {ثُلثي الليلِ}. {وطائِفةٌ مّن الذين معك} أيْ ويقومُ معك طائفةٌ من أصحابك {والله يُقدّرُ الليل والنهار} وحدهُ لا يقدرُ على تقديرهما أحدٌ أصلا فإنّ تقديم الاسمِ الجليلِ مبتدأٌ وبناء يقدرُ عليهِ موجبٌ للاختصاصِ قطعا كما يُعربُ عنه قوله تعالى: {علِم أن لّن تُحْصُوهُ} أي علم أنّ الشأن لنْ يقدرُوا على تقدير الأوقاتِ ولن تستطيعوا ضبط الساعاتِ أبدا {فتاب عليْكُمْ} بالترخيص في تركِ القيامِ المقدورِ ورفعِ التبعةِ عنكُم في تركه.
{فاقرءوا ما تيسّر مِن القرءان} فصلُّوا لما تيسر لكُم من صلاة الليلِ عبر عن الصلاة بالقراءة كما عبّر عنها بسائر أركانِها. قيل: كان التهجدُ واجبا على التخيير المذكورِ فعسُر عليهم القيامُ به فنُسخ به ثم نُسخ هذا بالصلوات الخمسِ وقيل: هي قراءة القرآن بعينها قالوا منْ قرأ مائة آيةٍ من القرآن في ليلةٍ لم يحاجّهُ وقيل: «من قرأ مائة آيةٍ كُتب من القانتين» وقيل: خمسين آية: {علِم أن سيكُونُ مِنكُمْ مرضى} استئنافٌ مبينٌ لحكمةٍ أخرى داعيةٍ إلى الترخيصِ والتخفيفِ.
{وءاخرُون يضْرِبُون في الأرض} يسافرون فيها للتجارةِ {يبْتغُون مِن فضْلِ الله} وهو الربحُ وقد عُمِّم ابتغاء الفضلِ لتحصيل العلمِ {وءاخرُون يقاتلون في سبِيلِ الله} وإذا كان الأمرُ كما ذُكِر وتعاضدت الدواعي إلى الترخيص {فاقرءوا ما تيسّر مِنْهُ} من غير تحملِ المشاقِّ {وأقِيمُواْ الصلاة} أي المفروضة {وءاتُواْ الزكاة} الواجبة وقيل: هي زكاةُ الفطرِ إذْ لم يكن بمكة زكاةٌ ومن فسرها بالزكاةِ المفروضةِ جعل آخر السورةِ مدنيا {وأقْرِضُواُ الله قرْضا حسنا} أُريد به الإنفاقاتُ في سبيلِ الخيراتِ أو أداءِ الزكاةِ على أحسنِ الوجوهِ وأنفعها للفقراء {وما تُقدّمُواْ لأنْفُسِكُم مّنْ خيْرٍ} كان مما ذُكر وما لم يُذكرْ {تجِدُوهُ عِند الله خيْرا وأعْظم أجْرا} من الذي تؤخرونه إلى الوصيةِ عند الموتِ وخيرا ثاني مفعوليْ تجدُوا وهو تأكيدٌ أو فصلٌ وإنْ لم يقعْ بين معرفتينِ فإن أفعل من في حُكمِ المعرفةِ ولذلك يمتنعُ من حرفِ التعريفِ وقرئ {هو خيرٌ} على الابتداءِ والخبرِ. {واستغفروا الله} في كافة أحوالِكم فإنّ الإنسان قلّما يخلو من تفريط {إِنّ الله غفُورٌ رّحِيمٌ}. اهـ.

.قال السمرقندي في الآيات السابقة:

قوله تعالى: {يا أيُّها المزمل} يعني الملتف في ثيابه وأصله في اللغة المتزمل وهو الذي يتزمل في الثياب وكل من التف بثوبه فهو متزمل وقد تزمل فأدغمت التاء في التاء وشددت الزاي فقيل مزمل يعني النبي صلى الله عليه وسلم {قُمِ الليل} يعني قم الليل للصلاة {إِلاّ قلِيلا} من الليل {نّصْفهُ} يعني قم نصفه فاكتفى بذكر الفعل الأول من الثاني لأنه دليل عليه {أوِ انقص مِنْهُ قلِيلا} يعني أو انقص من النصف قليلا {أوْ زِدْ عليْهِ} يعني: زد على النصف يعني ما بين الثلث إلى الثلثين ثم قال: {ورتّلِ القرءان ترْتِيلا} يعني: توسل فيه وقال الحسن بينه إذا قرأته فلما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين فنزلت الرخصة في آخر السورة، وقال مقاتل هذا قبل أن يفرض الصلوات الخمس، وقال الضحاك: {ورتّلِ القرءان ترْتِيلا} قال: اقرأه حرفا حرفا وقال مجاهد: أحب الناس إلى الله تعالى في القراءة أعقلهم عنه قوله تعالى: {إِنّا سنُلْقِى عليْك قولا ثقِيلا} يعني: سننزل عليك القرآن بالأمر والنهي يعني: يثقل لما فيه من الأمر والنهي والحدود وكان هذا في أول الأمر ثم سهل الله تعالى الأمر في قيام الليل، وقال قتادة في قوله: {إِنّا سنُلْقِى عليْك قولا ثقِيلا} قال: يثقل الله فرائضه وحدوده.
ويقال: يعني: قيام الليل ثقيل على المجرمين، ويقال: ثقيل على من خالفه، ويقال: ثقيل في الميزان خفيف على اللسان، ويقال: نزوله ثقيل كما قال: {لوْ أنزلْنا هذا القرءان على جبلٍ لّرأيْتهُ خاشعا مُّتصدِّعا مِّنْ خشْيةِ الله وتِلْك الامثال نضْرِبُها لِلنّاسِ لعلّهُمْ يتفكّرُون} [الحشر: 21] الآية وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليّه وهو على ناقته وضعت حرائها وما تستطيع أن تتحرك حتى يسري عنه أي: يذهب عنه ثم قال: {إِنّ ناشِئة الليل هي أشدُّ} يعني: ساعات الليل أشد موافقة للقراءة وأسمع، ويقال هي أشد نشاطا من النهار إذا كان الرجل محتسبا، ويقال: هي أوفى لقلوبهم {وطْأ وأقْومُ قِيلا} وأبين وأصوب وأثبت قراءة، وقال القتبي: ناشئة الليل يعني: ساعاته وهي مأخوذة من نشأت أي: ابتداء شيئا بعد شيء فكأنه قال: إن ساعات الليل الناشئة فاكتفى بالوصف من الاسم قوله تعالى: {أشدّ} يعني: أثقل على المصلي من ساعات النهار فأخبر أن الثواب على قدر الشدة وأقوم قيلا يعني: أخلص للقول وأسمع له لأن الليل تهدأ فيه الأصوات وتنقطع فيه الحركات قرأ أبو عمرو وابن عامر {أشد وطأ} بكسر الواو ومد الألف والباقون بنصب الواو بغير مد فمن قرأ بالكسر يعني: {أشد وطأ} أي: موافقة لقلة السمع يعني: أن القرآن في الليل يتواطأ فيه قلب المصلي ولسانه وسمعه على التفهم يعني: أبلغ في القيام وأبين في القول.
ويقال: أغلظ على اللسان.
قوله تعالى: {قِيلا إِنّ لك في النهار سبْحا طوِيلا} يعني: فراغا طويلا بقضاء حوائجك فيه ففرغ نفسك لصلاة الليل، وقال القتبي: سبحا أي: تصرفا إقبالا وإدبارا بحوائجك وأشغالك قوله عز وجل: {واذكر اسم ربّك} يعني اذكر توحيد ربك ويقال: فاذكر ربك.
ويقال: صل لربك {وتبتّلْ إِليْهِ تبْتِيلا} يعني: أخلص إليه إخلاصا في دعائك بعبادتك وهو قول مجاهد وقتادة ويقال: {وتبتل إليه تبتيلا} يعني: انقطع إليه وأصل التبتل القطع قيل لمريم العذراء البتول لأنها انقطعت إلى الله تعالى في العبادة.
ثم قال عز وجل: {رّبُّ المشرق والمغرب} قرأ حمزة وابن عامر والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر {رب المشرق} بالكسر والباقون {رب} بالضم فمن قرأ بالكسر وتبعه قوله: {واذكر اسم ربك} {رب المشرق والمغرب} ومن قرأ بالضم فهو على الابتداء ويقال: معناه: هو رب المشرق والمغرب.
ثم قال: {لا إله إِلاّ هُو} وقد ذكرناه {فاتخذه وكِيلا} يعني: وليا وحافظا وناصرا وكفيلا ثم قال عز وجل: {واصبر على ما يقولون} يعني: على ما يقولون من التكذيب والإذاء {واهجرهم هجْرا جمِيلا} يعني: اعتزلهم اعتزالا حصنا بلا جزع ولا فحش ثم قال: {وذرْنِى والمكذبين} هذا كلام على ما جرت به عادات الناس لأن الله تعالى لا يحول بينه وبين إرادته أحد ولكن معناه: فوض أمورهم إليّ يعني: أمور المكذبين {أُوْلِى النعمة} يعني ذا المال والغنى {ومهّلْهُمْ قلِيلا} يعني: أجلهم يسيرا لأن الدنيا كلها قليل يعني: إلى يوم القيامة ثم بين ما لهم من العقوبة يوم القيامة فقال عز وجل: {إِنّ لديْنا أنكالا} يعني: قيودا في الآخرة، ويقال: عقوبة من ألوان العذاب {وجحِيما} ما عظم من النار {وطعاما ذا غُصّةٍ وعذابا ألِيما} يعني: ذا شوك مستمسك في الحلق لا يدخل ولا يخرج فيبقى في الحلق ومع ذلك لهم عذاب أليم قول الله تعالى: {يوْم ترْجُفُ الأرض} يوم تتحرك وتتزلزل صار اليوم منصوبا لنزع الخافض يعني: هذه العقوبة في يوم ترجف الأرض {والجبال وكانتِ الجبال كثِيبا مّهِيلا} يعني: صارت الجبال رملا سائلا وهو كقوله: فكانت هباء منبثا ثم قال: {إِنّا أرْسلْنا إِليْكُمْ رسُولا شاهدا عليْكُمْ} يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم يشهد عليكم بتبليغ الرسالة {كما أرْسلْنا إلى فِرْعوْن رسُولا} يعني: موسى بن عمران {فعصى فِرْعوْنُ الرسول} يعني: كذبه ولم يقبل قوله: {فأخذناه أخْذا وبِيلا} يعني: عاقبناه عقوبة شديدة وهو الغرق فهذا تهديد لهم يعني: إنكم إن كذبتموه فهو قادر على عقوبتكم قوله عز وجل: {فكيْف تتّقُون إِن كفرْتُمْ} يعني: توجدون في الآخرة إن كفرتم في الدنيا، ويقال فيه تقديم ومعناه: إن كفرتم في الدنيا كيف تحذرون وتنجون.
{يوْما يجْعلُ الولدان شِيبا} يعني: يوم القيامة من هيبته يشيب الصبيان وهذا على وجه المثل لأن يوم القيامة لا يكون فيه ولدان ولكن معناه أن هيبة ذلك اليوم بحال لو كان هناك صبي يشيب رأسه من الهيبة ويقال: هذا وقت الفزع قبل أن ينفخ في الصور نفخة الصعق ثم قال عز وجل: {السّماء مُنفطِرٌ بِهِ} يعني: انشقت السماء من هيبة الرحمن {كان وعْدُهُ مفْعُولا} يعني: كائنا في البعث ثم قال: {إِنّ هذه تذْكِرةٌ} يعني: هذه الصورة موعظة {فمن شاء اتخذ إلى ربّهِ سبِيلا} يعني: من أراد أن يؤمن ويتخذ بذلك التوحيد إلى ربه مرجعا فليفعل وقال أهل اللغة في قوله: {السماء منفطر به} ولم يقل منفطرة به فالتذكير على وجهين:
أحدهما: أنه انصرف إلى المعنى ومعنى السماء السقف كقوله: {وجعلْنا السماء سقْفا مّحْفُوظا وهُمْ عنْ ءاياتها مُعْرِضُون} [الأنبياء: 32].
والثاني: أن معناه السماء ذات الانفطار كما يقال امرأة مرضع أي: ذات رضاع على وجه النسب.
ويقال: قوله: {السماء منفطر به} يعني: فيه شيء في يوم القيامة، ويقال: يعني: بالله تعالى يعني: من هيبته قوله تعالى: {إِنّ هذه تذْكِرةٌ} يعني: إن هذه الآيات التي ذكرت موعظة بليغة {فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا} يعني: من شاء أن يرغب فليرغب فقد أمكن له لأنه أظهر الحجج والدلائل.
ثم قال عز وجل: {إِنّ ربّك يعْلمُ أنّك تقُومُ أدنى مِن ثُلُثىِ الليل ونِصْفهُ وثُلُثهُ} قرأ حمزة والكسائي وابن كثير وعاصم {ونصفه وثلثه} كلاهما بالنصب والباقون بالكسر فمن قرأ بالنصب فهو على تفسير الأدنى كما قال: {أدنى من ثلثي الليل} وكان {نصفه وثلثه} تفسير لذلك الأدنى ومن قرأ بالكسر فمعناه: أدنى من نصفه وثلثه وقال الحسن لما نزل قوله: {قُمِ الليل إِلاّ قلِيلا} فكان قيام الليل فريضة فقام بها المؤمنون حولا فأجهدهم ذلك وما كلهم قام بها فأنزل الله تعالى رخصة {إِنّ ربّك يعْلمُ أنّك تقُومُ أدنى} إلى قوله: {علِم أن لّن تُحْصُوهُ} فصار تطوعا ولابد من قيام الليل.
فذلك قوله: {إِنّ ربّك يعْلمُ أنّك تقُومُ أدنى مِن ثُلُثىِ الليل ونِصْفهُ وثُلُثهُ وطائِفةٌ مّن الذين معك} يعني: وجماعة من المؤمنين معك تقومون نصف الليل وثلثه {والله يُقدّرُ الليل والنهار} يعني: يعلم ساعات الليل والنهار {علِم أن لّن تُحْصُوهُ} يعني: أن لن تطيعوه ولم تقدروا أن تحفظوا ما فرض الله عليكم على الدوام ويقال: معناه: لن تطيقوا حفظ ساعات الليل {فتاب عليْكُمْ} يعني: تجاوز عنكم ورفع عنكم وجوب القيام {فاقرءوا ما تيسّر مِن القرءان} في صلاة الليل ويقال: {فاقرءوا ما تيسّر مِن القرءان} في جميع الصلوات {علِم أن سيكُونُ مِنكُمْ مرضى} علم الله تعالى أن منكم مرضى لا يقدرون على قيام الليل {إِنّ ربّك يعْلمُ أنّك} يعني: يسافرون في الأرض {يبْتغُون مِن فضْلِ الله} يعني: في طلب المعيشة يطلبون الرزق من الله تعالى وفي الآية دليل أن الكسب الحلال بمنزلة الجهاد لأنه جمع مع الجهاد في سبيل الله، وروى إبراهيم عن علقمة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مِنْ جالِبٍ يجْلِبُ طعاما مِنْ بلدٍ إلى بلدٍ فيبِيعهُ بِسِعْرِ يوْمِهِ إلاّ كانتْ منْزِلتُهُ عِنْد الله تعالى منْزِلة الشّهِيدِ. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنّ ربّك يعْلمُ أنّك تقُومُ فاقرءوا ما تيسّر مِنْهُ}» يعني: من القرآن {وإِذْ أخذْنا} يعني: الصلوات الخمس {وإِذْ أخذْنا} يعني: الزكاة المفروضة {وأقْرِضُواُ الله قرْضا حسنا} يعني: تصدقوا من أموالكم بنية خالصة من المال الحلال {وما تُقدّمُواْ لانْفُسِكُم مّنْ خيْرٍ} يعني: ما تعملون من عمل من الأعمال الصالحة يعني: تتصدقون بنية خالصة {تجِدُوهُ عِند الله} يعني: تجدوا ثوابه في الآخرة.
{هُو خيْرا وأعْظم أجْرا} يعني: الصدقة خير من الإمساك وأعظم ثوابا من معاملتكم وتجارتكم في الدنيا، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه اتخذ له حيسا يعني: تمرا بلبن فجاءه مسكين فأخذه، ودفعه إليه فقال بعضهم: ما يدري هذا المسكين ما هذا فقال عمر: لكن رب المسكين يدري ما هو فكأنه تأول قوله تعالى: {وما تُقدّمُواْ لانْفُسِكُم مّنْ خيْرٍ تجِدُوهُ عِند الله هُو خيْرا وأعْظم أجْرا} ثم قال عز وجل: {واستغفروا الله} يعني: اطلبوا المغفرة لذنوبكم بالرجوع إلى الله تعالى {إِنّ الله غفُورٌ رّحِيمٌ} يعني: لمن تاب رحيما بعد التوبة والله أعلم بالصواب. اهـ.